### **حارسة المغول: غولبدن بيغوم وقصة التمرد على "قفص الحريم"**
لطالما حبست المخيلة الشعبية، سواء في الشرق أو
الغرب، صورة "الحريم" السلطاني في إطار ضيق ومضلل. صورة رسمتها قرون من
السرديات الاستشراقية التي اختزلته في كونه فضاءً للملذات الحسية، وساحة خلفيةتدور فيها مكائد الجواري والنساء طمعاً في حظوة السلطان أو صعوداً على سلم السلطة.
هذه الصورة النمطية، التي عززتها الأعمال الدرامية والتاريخية السطحية، أغفلت عن
عمد أو جهل حقيقة أكثر تعقيداً وعمقاً؛ فالحريم لم يكن مجرد قفص ذهبي، بل كان في
كثير من الأحيان مؤسسة سياسية واجتماعية فاعلة، ومسرحاً لأدوار نسائية حاسمة في
بناء الإمبراطوريات والحفاظ عليها.
![]() |
### **حارسة المغول: غولبدن بيغوم وقصة التمرد على "قفص الحريم"** |
- في قلب هذا الجدل، ومن بين جدران التاريخ المغولي في الهند، تبرز شخصية استثنائية تعيد تشكيل
- فهمنا لهذا العالم المغلق: الأميرة **غولبدن بيغوم** (1523-1603 م). هي ليست مجرد ابنة
- للإمبراطور المؤسس "بابر" وعمة للإمبراطور العظيم "أكبر"، بل هي المؤرخة الوحيدة التي
- عرفتها البلاطات الإسلامية الكبرى (المغولية، العثمانية، الصفوية) والتي تركت خلفها عملاً نثرياً
- فريداً. ومن خلال سيرتها التي أعادت الباحثة والمؤرخة النسوية **روبي لال** إحياءها في كتابها
- "الأميرة الهائمة: المغامرات العظيمة للأميرة غولبدن"، نكتشف حكاية تمرد هادئ وذكي على
- النظام الأبوي، وهروب رمزي ومادي من "قفص
الحريم" الذي بدأ يضيق على نساء عصرها.
#### **كسر الصورة النمطية الحريم كمؤسسة سياسية**
قبل الخوض في حكاية غولبدن، من الضروري تفكيك أسطورة الحريم. خلافاً للرؤية الغربية التي صورته كسجن أو بيت للدعارة المقننة، كان الحريم السلطاني، كما توضح أبحاث حديثة تقودها مؤرخات، مؤسسة منظمة بدقة. كانت العلاقات الجنسية داخلها، والتي تتعلق مباشرة ببقاء السلالة الحاكمة، تُدار بحذر شديد.
- والأهم من ذلك، كان الحريم بالنسبة للنساء ذوات النفوذ - كالسلطانات الأمهات والأخوات والعمات -
- مركزاً للسلطة الناعمة والدبلوماسية. كنّ يلعبن أدواراً محورية في عقد التحالفات عبر الزواج، وفي
- التوسط لحل النزاعات بين الأمراء المتنافسين على العرش، وفي الحفاظ على طقوس البلاط التي
- تكرّس شرعية الحكم. لقد كن "حارسات الإمبراطورية"، كما تصفهن روبي لال، يشاركن في صياغة
- السياسات من خلف الستار.
#### **غولبدن بيغوم الأميرة التي كتبت التاريخ**
وُلدت غولبدن، التي يعني اسمها "الجسد
الوردي"، في كابول حوالي عام 1523. عاشت طفولتها وشبابها في فترة انتقالية
حاسمة من تاريخ المغول. لم تكن حياتها الأولى حبيسة القصور الثابتة، بل كانت جزءاً
من البلاط المغولي المتنقل الذي كان أشبه بمعسكر ملكي دائم الترحال. كانت الخيام
المبطنة بالذهب والمخمل هي بيوتهن، وكانت دروب الفتوحات هي عالمهن. في هذه البيئة،
لم يكن الفصل بين الجنسين صارماً كما أصبح لاحقاً؛ فقد شاركت النساء في تحمل مشاق
الحملات العسكرية، وكنّ مستشارات لأزواجهن وإخوتهن، وشاهدات على صناعة التاريخ.
- يكمن تفرد غولبدن في أنها لم تكن مجرد شاهدة، بل أصبحت راوية. بطلب من ابن أخيها، الإمبراطور
- أكبر، كتبت وهي في الرابعة والستين من عمرها كتابها "أحوال همايون بادشاه"، المعروف بـ
- "همايون نامه". هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية بالمعنى الحديث، ولكنه سرد تاريخي يركز على عهد
- أخيها غير الشقيق "همايون".
تكمن قيمته الاستثنائية في أنه يقدم وجهة نظر نسائية حميمية، مليئة بالتفاصيل عن حياة العائلة الإمبراطورية، وعلاقات النساء، وولادة الأطفال، والاحتفالات، والأحزان. إنه يملأ فراغاً هائلاً في السجلات الرسمية التي كتبها الرجال، والتي ركزت بشكل شبه حصري على الحروب والسياسة، متجاهلة النسيج الاجتماعي والأسري الذي شكل أساس الإمبراطورية.
#### **التمرد الكبير رحلة الحج كفعل مقاومة**
مع تولي الإمبراطور "أكبر" العرش،
تغير وجه الإمبراطورية المغولية. فمع ترسيخ دعائم الحكم وتوسيع رقعته، بدأ "أكبر"
في بناء مؤسسات الدولة، ومن ضمنها "الحريم" بشكله الجديد. تحول البلاط
المتنقل إلى قصور ثابتة في أغرا وفتح بور سيكري، وأصبح الحريم فضاءً معزولاً ذا جدران
حجرية، تفرض على سكانه قواعد صارمة. بالنسبة لامرأة مثل غولبدن، التي نشأت في حرية
نسبية وتعودت على حياة الترحال والمشاركة، كان هذا النظام الجديد بمثابة سجن فاخر.
- هنا، تتجلى عبقرية تفسير روبي لال. ففي عام 1576 تقريباً، وبعد أن سئمت "حياة المقاصير
- والجدران"، قادت غولبدن بيغوم وفداً رفيع المستوى يضم إحدى عشرة امرأة من البلاط
- الإمبراطوري في رحلة لأداء فريضة الحج. لم تكن هذه الرحلة مجرد واجب ديني، بل كانت، بحسب
- لال، أجرأ مغامراتها وفعل مقاومة مدروس. كانت مهرباً من القيود الجديدة، وإعلاناً عن استقلالية
- واستعراضاً لنفوذ نساء المغول على الساحة الدولية.
أقامت غولبدن وحاشيتها في مكة والمدينة لأربع
سنوات، وهو أمر غير مسبوق. وخلال هذه الفترة، قمن بتوزيع الصدقات بسخاء منقطع
النظير، وبنين لأنفسهن شبكة من النفوذ والاحترام. هذا السخاء، الذي كان تقليداً
مغولياً أصيلاً، لم يمر مرور الكرام على حاكم الحجاز الفعلي، السلطان العثماني
مراد الثالث. لقد رأى في هذا الكرم المغولي تحدياً مباشراً لسيادته على الأراضي
المقدسة، ومحاولة لترسيخ نفوذ منافسه المحتمل، الإمبراطور أكبر، الذي كان يطمح
لزعامة العالم الإسلامي.
- كان رد فعل السلطان العثماني دليلاً قاطعاً على أن أفعال النساء لم تكن تُرى على أنها مجرد أعمال
- خيرية، بل كأدوات سياسية مؤثرة. أصدر مراد الثالث خمسة مراسيم إمبراطورية على الأقل
- محفوظة اليوم في أرشيف إسطنبول، تأمر بطرد الأميرات المغوليات. وبعد مقاومة وصمود، أُجبرت
- غولبدن ورفيقاتها على مغادرة الحجاز في عام 1582. كانت رحلة العودة محفوفة بالمخاطر، حيث
- تحطمت سفينتهن قبالة سواحل اليمن، لكنهن نجون وعدن في النهاية إلى الهند، حيث استُقبلن استقبال
- الأبطال.
#### **ألغاز التاريخ ومحاولات الطمس**
رغم بطولتها، تحيط بغولبدن ألغاز كثيرة. لماذا
ينتهي كتابها "همايون نامه" فجأة في منتصف جملة، عند نقطة حساسة تتعلق
بمعاقبة أخيها المتمرد "قمران"؟ ولماذا لم تصلنا سوى نسخة وحيدة من هذا
العمل الفريد، محفوظة اليوم في المكتبة البريطانية؟
- تطرح روبي لال نظرية جريئة ومقنعة: تعرضت غولبدن وتاريخها لمحاولة طمس متعمدة. ففي سياق
- طموحات الإمبراطور أكبر لتقديم نفسه كحاكم إسلامي مثالي، ربما أصبحت حكاية استقلالية عمته
- وتحديها للسلطان العثماني أمراً محرجاً سياسياً. إن توثيق أفعال نساء نافذات يتصرفن بشكل مستقل
- خارج سيطرة الإمبراطور، قد يُضعف من صورته كسلطان مطلق. لذا، من المحتمل أن السجلات
- الرسمية قد تم "تحريرها"
لتهميش دورها، وأن كتابها قد بُتر أو كاد أن يُفقد تماماً.
في الختام
قصة غولبدن بيغوم هي أكثر من مجرد سيرة أميرة مغولية. إنها نافذة نطل منها على عالم "الحريم" الحقيقي، عالم النساء القويات، والدبلوماسيات، والمؤرخات، والمتمردات.
إنها شهادة على أن
التاريخ الرسمي غالباً ما يكون قصة منقوصة كتبها المنتصرون، وأن استعادة أصوات
النساء المنسية مثل غولبدن ليس مجرد تصحيح أكاديمي، بل هو استعادة لجزء حيوي ومؤثر
من الرواية الإنسانية بأكملها. لقد كانت غولبدن "حارسة المغول" التي
حفظت ذاكرتهم، وكانت أيضاً "الأميرة الهائمة" التي رفضت أن يحفظها
التاريخ في قفص.